العلاقة التركية – الروسية في سوريا إلى أين؟
تطورت الأوضاع في منطقة إدلب بشكل دراماتیكي مؤخرا. بدأ شریط الأحداث عندما دعم الجیش التركي ھجوما للفصائل “المعارضة” على مدینة سراقب الاستراتیجیة لاستعادتھا من الجیش السوري وإرجاعه الى خلف نقاط المراقبة التركیة. ھذا الھجوم المعاكس انعكس على تصریحات أردوغان الذي أعلن “أن الوضع في إدلب بدأ یتغیرّ لمصلحة تركیا”. ولكن لم یتأخر الرد السوري، وربما كان ردًا روسیًا، بغارة استھدفت مركزا عسكریا تركیا، أسفرت عن مقتل العشرات. وتأرجحت المعلومات بین ثلاثین وأربعین قتیلا في صفوف الجیش التركي، مما أدى إلى تأزم العلاقة التركية – الروسية.
كما أن المفاوضات كشفت عمق الفجوة، حيث بات المیدان هو المیزان، بوتین عزز قواته وقاد ھجوم دمشق في إدلب لتنفیذ تفسیره لسوتشي. وأردوغان أرسل تعزیزات وقوات ومعدات لفرض تفسیره للاتفاق على الأقل، منع دمشق وموسكو وطھران من فرض النسخة الروسیة من “سوتشي” في إشارات الى انتھاء “شھر العسل” التقطھا مسؤولون أمیركیون وأوروبیون. ھناك استنفار لالتقاط حدود خلاف بوتین وإردوغان، وھناك محاولة لطي التراكم الاستراتیجي، فعندما تحصل مواجھة بین روسیا ودولة عضو في “الناتو” تحاول دول أوروبیة وأمیركا التي تعاني حسب قولها مما تسميه “تدخلات روسیا في الانتخابات” وتمدد النفوذ والصعود الدولي، للإفادة من مشكلات “زواج المصلحة” بین بوتین وأردوغان.
استند أردوغان في تھدیداته الى الإشارات الأمیركیة المحتملة حول دعم أنقرة في أزمتھا مع موسكو ودمشق، مقابل عودة علاقات التحالف التقلیدي. ولكن أردوغان یخوض مغامرة، أو بنظر البعض یرتكب “حماقة” لأنه یراھن على استدراج ترامب الى معركته ویبالغ في استفزاز بوتین الذي یرفض أي مفاوضات تحت الضغط، ولا یسمح لأردوغان بفرض أو تحسین شروطه ولن یعطیه ما یرید. في المقابل، ثمة رھان روسي على تراجع أردوغان في نھایة المطاف، وأن یكون لدیه ما یكفي من الذكاء ومن الحسّ الواقعي لعدم الوقوع في الفخ المنصوب له.
عوامل متعددة تحدد میزان القوى في شمال سوریا وتعزّز قدرة روسیا على إملاء الشروط وتبرر الانصیاع التركي لشروط موسكو في نھایة المطاف. ولكن ثمة عامل استجد وفرض معطى جدیدًا على الأرض وأدى الى تعثر خطة أردوغان الھجومیة المضادة، والى أن یخوض المفاوضات الحاسمة مع بوتین من موقع أضعف مما كان یتوقع. وھذا المعطى یتمثل في “معركة سراقب”، المدینة الاستراتیجیة التي تشكل عقدة رئیسیة تربط أوتوستراد حلب – دمشق، وحلب – اللاذقیة، والتي شھدت أعنف المعارك بعدما حررها من ید الجیش السوري أولا، ثم وضع إردوغان ثقله لاسترجاعھا واستخدامھا كورقة مساومة ومفاوضة مع بوتین. وھو بالفعل نجح في استرجاعھا ولكنه لم ینجح في استخدامھا.
واستنادا الى مصادر قریبة من دمشق، فإن الأتراك دفعوا بقوات النخبة الى “سراقب” وفي مقدمھم متطوعون أتراك مدربون على ید الجیش ویعُرفون بـ”الذئاب الرمادیة”، وتمكنوا بمساندة الطائرات المسیرّة من استرجاع سراقب والسیطرة علیھا. لم تدم سیطرة الأتراك على سراقب أكثر من یوم واحد، مع تمكن الجیش السوري من استعادة السیطرة على كامل المدینة، مھاجما إیاھا من الناحیتین الشرقیة والجنوبیة. وكانت لافتة مشاركة الطائرات الحربیة الروسیة في استعادة السیطرة على سراقب، خصوصًا في الساعات الأخیرة من العملیة.
لم يكن وضع الرئیس التركي رجب طیب أردوغان حين التقى الرئیس الروسي فلادیمیر بوتین في موسكو مؤخراً، في أفضل حال، فقد كان في موقع تفاوضي ضعیف، ورازحًا تحت ضغوط متعددة:
– في المیدان وعلى أرض المعركة، كان الجیش السوري مع حلفائه قد حقق تقدمًا على جبھات إدلب.
– في الداخل التركي، كانت للخسائر الكبیرة في الجیش وقع الصدمة، وجرى تحمیل أردوغان مسؤولیة رمي الجنود الأتراك في مغامرة وفي “مھلكة”، من دون تأمین تغطیة جویة.
– في الدبلوماسیة والسیاسة الخارجیة، لم ینجح أردوغان في حشد الدعم الدولي. فلا حلف شمال الأطلسي وقف بقوة الى جانبه، ولا الولایات المتحدة وافقت على طلبه إرسال صواریخ “باتریوت”.
وأفادت معلومات دبلوماسیة أن نقاشًا طویلًا دار بین الرئیسین الروسي والتركي، لیس فقط حول تداعیات إاستمرار المواجھة العسكریة بینھما وإعادة بوتین التأكید أمام الرئیس التركي على موقف روسیا غیر القابل للنقاش بما خص دعم الدولة السوریة، بل إن بوتین قال لإردوغان إن الأمیركي لن یساعدك مباشرة بینما روسیا على استعداد لمساعدة تركیا وعدم خسارة ما باتت تمثله العلاقة المتطورة بین البلدین من مكاسب لتركیا وروسیا.
كل ھذه التطورات والظروف لا تسمح لأردوغان بأكثر من “حفظ ماء الوجه” عبر اتفاق لوقف إطلاق النار توصلت إلیه قمة موسكو، وبترضیة من الرئیس الروسي على شاكلة إشراكه بتسییر دوریات على الطریق الدولیة، وتوفیر حمایة أوسع لنقاط المراقبة التركیة على الأراضي السوریة.
من الواضح أن اتفاق موسكو حاول أن یوازن بین مكاسب میدانیة تركیة – وسوریة، لكنه لم یعالج أي مشكلة جذریة كانت سببًا للتصعید العسكري الخطیر في الآونة الأخیرة، ما یجعله مجرد ھدنة أو “استراحة محارب” في انتظار جولات عسكریة أخرى قادمة. فمرة أخرى، شكلت إدلب اختبارا لعلاقة بوتین وأردوغان، اختبار لمدى وحدة الموقف الأوروبي والموقف الأوروبي – الأمیركي. حدود الدعم لدولة حلیفة في الأطلسي. مدى رھان أردوغان بالمغامرة بعلاقته مع بوتین مقابل وعود أطلسیة. موازنة بوتین بین أھمیة إدلب لدمشق وله، وبین أھمیة أنقرة له وطموحاته الشرق أوسطیة والدولیة.
سركيس أبوزيد-العهد