أزمة البنزين المستفحلة في المناطق اللبنانية تسببت بمقتل عدد من الأشخاص، وانتظار الطوابير لعدة كيلومترات على الطرقات، ألهبت مخيلة البعض فعمدوا إلى المتاجرة بها في سوق سوداء انعكست أيضاً على مادة المازوت المشغلة لمولدات الكهرباء.
من محطة إلى أخرى، يفقد المواطن وقته، وأعصابه، وما تبقى في خزان سيارته من وقود، محاولاً الحصول على البنزين. لكن لا ضمانة أن يتمكن من ذلك، أو عليه الانتظار لساعات طويلة في الصفوف المتمادية أمام المحطات. خيبة الانتظار الاقتراب من المحطة ليعلن صاحبها إقفالها بحجج مختلفة، فتذهب جهوده أدراج الرياح، وقد يعود خالي الوفاض بعد تجوال عبثي طويل.
الأسبوع الجاري، استُهلّ بمقتل 3 شبان على خلفية النزاع على البنزين. لكن لم يكن مقتلهم الأول من نوعه. أول ضحايا نزاع البنزين، إذا جاز التعبير، كان مقتل شاب جامعي من آل المصري، يملك والده محطة للوقود على الطريق العام الدولي في محلة العبدة، زهاء 7 كيلومترات من الحدود اللبنانية-السورية الشمالية، وأقفلت المحطة بقرار من أصحابها كردة فعل على خسارة ابنهم، ولم تكن الحادثة الأخيرة، فالنزاعات تتالت على محطات أخرى، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.
بعض المناطق تشهد أزمة حادة، حيث تزدحم عليها طوابير المنتظرين لمسافات بعيدة، والآخر أقل حدة.
عندما لجأت السلطات المختصة إلى تسعير الدولار النفطي بـ 3900 ليرة لبنانية بدلاً من 1500 ليرة، تنفس المواطنون الصعداء، ولسان حالهم يقول: “منتعب الجيبة وما منتعب القلب”، بدل الانتظار الطويل. ومع ذلك، الأزمة لم تُحل برفع تسعيرة دولار النفط.
الخبير الاقتصادي العامل في الشؤون النفطية الدكتور محمود أدلبي، وفي حديث لـ “الميادين نت“، يعزو السبب إلى “الفارق الكبير بين السعر الذي اعتمد للدولار، والسعر الرائج في السوق، أي 20 ألف للدولار وما يزيد، بينما المصرف المركزي لا يزال حريصاً على عدم فتح المسألة لمداها الأقصى”.
وبحسب إدلبي، فإن السبب الآخر هو رفع تسعيرة الدولار لـ 3900، ما يزال يترك هامشاً واسعاً عن سعر الصفيحة في سوريا، “في لبنان ما تزال الصفيحة تتراوح بين 70 و80 ألفاً، بينما تزيد على الـ 300 في سوريا، مما يشجع على عمليات التهريب طمعاً بالربح الكبير”.
إضافة إلى أن الفارق بين الازدحام هو وفقاً للمناطق، وبحسب الكميات التي تخصصها الشركات المستوردة، وتزيد كمياتها خاصة في العاصمة بيروت.
ويلاحظ إدلبي أن “من الأسباب المهمة للفارق في حدة الأزمة هو تركيز عمليات التهريب على المناطق المحاذية للحدود مع سوريا، أو القريبة منها، مثل البقاع والشمال. أما بالنسبة لتشابه الأزمة مع الجنوب، فالمسألة تعود لنسبة الكميات المخصصة له مثل المخصصة للشمال والبقاع، وهي أقل من بيروت، مع فارق واحد عدم وجود تهريب”.
الازدحام خلق نوعاً من المنافسة، والنزاعات بين المواطنين، أدت إلى إقفال المحطات واحدة تلو الأخرى وخاصة في عكار وطرابلس، والكورة، والبترون، وزغرتا، في الشمال.
سائقو التاكسيات، يضطرون أن يقضوا ساعات عاطلين من العمل، لكي يؤمنوا وقود سياراتهم، فوجدوا في بيع الوقود لمن يحتاج له، وعلى استعداد لدفع ثمن أعلى من التسعيرة الرسمية، مجالاً لكسب الربح، وأفضل من التجول في الشوارع بحثاً عن ركاب قلّت أعدادهم، فيعمدون إلى إفراغ قسم من البنزين من سياراتهم لصالح محتاج لها، بسعر مضاعف.
الفكرة فتحت شهية الكثيرين الذين جعلوا من الأزمة مجال استفادة، وربح، وكلما ازداد عدد المتبعين لهذا الأسلوب، كلما ازداد الاصطفاف على المحطات، حتى بلغ طول الصف الكيلومترين أو الثلاثة. لكن المستفيدين من الأزمة حولوا انتظاراتهم دواوين على الانتظار، وشرب قهوة، إلى أن يأتي دورهم ولو بعد ساعات طوال.
وامتدت أزمة سوق البنزين السوداء إلى المازوت، فعمد أصحاب المولدات -الذين يزودون المواطنين بالتيار الرديف لتيار الدولة- إلى قطع التيار لساعات في اليوم بحجة عدم توافر المازوت.
واحتدمت أزمة المازوت، وفقدت المادة من السوق، وباتت العديد من المصالح تفتقد لهذه المادة بإلحاح، فوصل ثمن صفيحة المازوت ما بين 300 و400 ألف ليرة لبنانية، مما فتح شهية أصحاب المولدات لإطفاء محركاتهم، ومنع التيار عن المواطنين بهدف بيع المازوت بأسعار عالية.
ويوضح إدلبي أن “المواطنين البيروتيين أبدوا وعياً وطنياً أكثر من مواطني المناطق الأخرى، فلم يعمدوا إلى تعبئة خزاناتهم، وبيعها في السوق السوداء، مثل المناطق البعيدة عن العاصمة، الذين تسببوا في رفع حدة الأزمة عن طريق المتاجرة بالوقود”.
ومن خلال هذه الأساليب، نشأت سوق نفطية على الطرقات، فانتشرت بسطات غالونات البنزين والمازوت، وقناني المياه الفارغة المملوءة بالوقود. تجارة حلّت مكان محطات الوقود المقفلة، لكن بسعر يفوق الضعف.
ويتعاون ناشطو السوق السوداء مع بعض المحطات، فيحصلون منهم بطرق متخفية على كميات من الوقود من خارج الاصطفاف العادي، مقابل تقاسم الأرباح.
أما المواطنون، خصوصاً منهم أصحاب الوظائف الذين لا يستطيعون الانتظار لساعات على المحطات، فيؤثرون شراء غالونات السوق السوداء التي باتت مصدر شكوى للمواطنين لما تسببه من أعطال في سياراتهم.
يقول طارق، -موظف حكومي-، إن سيارته بدأت تعاني من ضعف قوة، واتساخ في البخاخات، مرجّحاً أن يكون السبب ما يتزود به من بنزين الغالونات.
أما زياد نصوح، -موظف في إحدى شركات الهاتف-، فقد شوهد صباحاً يفرغ بعضاً من خزان “موتوسيكله”، بامتصاص البنزين بأنبوب بلاستيك، ويوضح: “أخي يعمل ليلاً، ولا يستطيع الانتظار على المحطات، فأتولى تعبئة خزان دراجتي بعد انتهاء دوامي، وتقاسمها لكي نستطيع الاستمرار”.
وفي هذا الإطار ، يعتقد الخير الاقتصادي إدلبي أن الحل للأزمة هو “برفع الدعم عن الوقود، لكن ضمن خطة تتيح للمواطنين الحصول على كمية معينة بالسعر المدعوم، وما يزيد عن ذلك فبالسعر غير المدعوم، ويمكن الاستفادة من تجربة سوريا في هذا المجال”.
المصدر: الميادين نت