ربما بمعزل عمّا تريده واشنطن ومعها لبنان بأكثرية مكوّناته قد تغيرت قواعد الإشتباك في سوريا قبل لبنان. فالتجاذبات الكبيرة على الساحة السورية أدّت إلى إلحاق ساحات الجوار اللبنانية والعراقية. والدليل أنّ ما جرى على الحدود الجنوبية شكل انعكاساً لما يجري في سوريا فتمدّدت حدود الجولان الى المتوسط. وعليه ما الذي قاد الى هذه المعادلة؟ ومَن غيّر قواعد الإشتباك؟
مقابل حجم القلق الذي ساد الأوساط اللبنانية بإمكان التلاعب او التخلي عن قواعد الإشتباك التي أرساها القرار 1701 والتي تسبّب بها التوتر الأخير على الحدود الجنوبية ما بين الأول من ايلول والتاسع منه، كان هناك مَن يبحث عن متغيّرات طرأت على ساحات وجبهات أخرى ليفهم ما يجري في لبنان،
فاستقرّ الرأي عند كثير من المراقبين الديبلوماسيين والخبراء العسكريين أن عليهم البحث عمّا يجري في سوريا وعلى جبهة المواجهة المفتوحة بين طهران وواشنطن وتداعياتها على معظم الساحات التي يلتقي فيها الطرفان، دون تجاهل ما لروسيا من دور يزكي هذه المواجهة بالنظر الى ما يدور في اروقة موسكو وتل أبيب وانقرة ايضاً. فالجميع متورط في سوريا ولكل منهم مصالحه التي تتلاقى وتتعارض في آن في اكثر من منطقة سورية ملتهبة.
كان لبنان في تلك اللحظات يعيش نوعاً من الإستقرار أعقب التمديد للقوات الدولية «اليونيفيل» في الجنوب في 30 آب الماضي لمدة سنة دون ايّ تعديل في مهماتها ودورها وموازنتها وقواعد الإشتباك التي قال بها القرار الدولي.
وكل ذلك كان يجري على وقع انتظار الرد المتوقع من «حزب الله» وايران على عمليتي الغارة الإسرائيلية على دمشق ومقتل اثنين من خبراء الطيران في «حزب الله» (25 آب 2019) وسقوط طائرتي الإستطلاع في الضاحية الجنوبية في الساعات القليلة التي تلتها (فجر 26 آب 2019).
وهو وضع انتهى الى نوع من القلق المضاعف جراء رد «حزب الله» على غارة دمشق باستهداف آلية مدرعة في موقع «افيميم» (1 ايلول 2019) وإسقاط طائرة مسيّرة اسرائيلية في خراج بلدة «رامية» الحدودية (9 ايلول 2019) رداً على سقوط الطائرتين المسيّرتين في الضاحية الجنوبية من بيروت.
على خلفية هذه التطورات المتلاحقة بالسرعة القياسية يتوقف المراقبون الديبلوماسيون والعسكريون عند عدد من السيناريوهات المتوقعة فيرصدون المواقف المتشنّجة على اكثر من مستوى، خصوصا في المرحلة التي واكبت ورافقت وصول مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى دايفيد شينكر الى بيروت وما رافقها من مواقف تصعيدية سواء تلك التي عبّر عنها الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله في ليالي عاشوراء ومواقف شينكر في آن.
وفي القراءة المتأنّية لمجمل هذه المواقف يخلص هؤلاء المراقبون الى رسم سيناريو تقريبي هو المرجح من بين عدة سيناريوهات متداولة على اكثر من مستوى. فتوصلوا الى القول إنّ ما جرى في الجنوب لا يمكن احتسابه تغييراً في قواعد سلوك القوات الدولية وادارة الحدود بين البلدين، بل إنه ناتج من ترددات الصراع الأميركي – الإيراني في سوريا والذي تترجمه اسرائيل في جانب منه، و«حزب الله» من جهة أخرى.
ويستند هذا السيناريو الى ما لم يصدقه أحد من اللبنانيين والأميركيين وغيرهم، في وقت ظهر فيه انّ إسرائيل وحدها فهمت الرسالة وتوسعت في الحديث عن ردود فعل الحزب المتدرجة المتوقعة دون غيرها. ولما نفذت عملية «افيميم» قال الإسرائيليون وحدهم إنّ هذا الرد مرتبط بغارة دمشق فقط، وانتظروا الرد الثاني على عملية الضاحية الى ان اسقطت طائرة «رامية» ليطمئنّوا الى انّ الرد انتهى على العمليتين وعلى الأقل في المدى المنظور.
وفي ظل هذه المفارقات، يصرّ المراقبون على القول إنّ موضوع التلاعب بقواعد الإشتباك ليس سوى قرار اتخذه الايرانيون او قيادة «حزب الله» لا فرق، وهو يقول بالربط بين الساحتين السورية واللبنانية، فتحوّل الجنوب اللبناني امتداداً طبيعياً لما يجري على جبهة الجولان. فغارة دمشق استهدفت مَن يخطط لإستهداف اسرائيل من الخاصرة الجولانية وحديثها عن تعطيل عملية أخرى في سوريا قبل ايام قليلة كان يعدها الحرس الثوري الإيراني، كما تزعم، يقع في النطاق الجغرافي نفسه.
وما زاد في هذه القناعة، بدء الإعلام الحربي التابع لـ«حزب الله» منذ مطلع الأسبوع الجاري ببثّ البيانات الحربية التي تشير الى الغارات الإسرائيلية على مناطق نفوذ اصدقاء ايران في الحشد الشعبي على الحدود العراقية – السورية، وهو ما ادّى ايضا الى الربط العسكري والإعلامي، وبالتالي السياسي، للساحات الثلاث العراقية والسورية والإيرانية.
وبغير هذا المنطق لا يمكن فهم ما يجري في جنوب لبنان. فالحكومة اللبنانية تقف في صفّ المتفرّج وأقطابها مستسلمون للأمر الواقع، فلا حول لها ولا قوة، انهم يتابعون كما كل المعنيين بالأزمة التطورات عندما يعلنها «حزب الله» فلا استشارة مسبقة ولا لاحقة رغم اصدار بيانات الشكر عن قادة الحزب ومسؤوليه الى المسؤولين اللبنانيين الذين تبنّوا عملياتهم وقراءتهم لدوافعها والأسباب الموجبة لها كما ارادها الحزب شكلاً ومضموناً، وصولاً الى اعتبارها حرباً معلنة على لبنان دون ان يدري معظم اللبنانيين لماذا؟ وكيف؟ وما شأنهم بما يجري على الساحة السورية وتلك المتورّطة في حروبها والتقلبات اليومية المنتظرة؟
وفي الختام، وعلى خلفية هذه القراءة للتطورات يظهر جلياً ان قواعد الإشتباك لم تتغير في لبنان، بل في سوريا. فالمواجهة المفتوحة بين طهران وواشنطن مرشحة للكثير من المطبات المقبلة، ولكن السؤال المحيّر: هل أراد «حزب الله» او ايران، لا فرق، إحراج الروس أيضاً، كما الأميركيين بتوحيد الجبهات والساحات العسكرية في سوريا والعراق وبنقل المواجهة من الأراضي السورية الى اللبنانية؟ وإن صحّ ذلك فما سيكون عليه ردّ موسكو؟